سورة المؤمنون - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


{وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)}.
يقول تعالى مخبرًا عن عدله في شرعه على عباده في الدنيا: أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، أي: إلا ما تطيق حمله والقيام به، وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم التي كتبها عليهم في كتاب مسطور لا يضيع منه شيء؛ ولهذا قال: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} يعني: كتاب الأعمال، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي: لا يبخسون من الخير شيئا، وأما السيئات فيعفو ويصفح عن كثير منها لعباده المؤمنين.
ثم قال منكرًا على الكفار والمشركين من قريش: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} أي: غفلة وضلالة {مِنْ هَذَا} أي: القرآن الذي أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}: قال الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} أي: سيئة من دون ذلك، يعني: الشرك، {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} قال: لا بد أن يعملوها. كذا روي عن مجاهد، والحسن، وغير واحد.
وقال آخرون: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} أي: قد كتب عليهم أعمال سيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة، لتحق عليهم كلمة العذاب.
ورُوي نَحو هذا عن مقاتل بن حيَّان والسُّدِّيّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهو ظاهر قوي حسن. وقد قدمنا في حديث ابن مسعود: «فوالذي لا إله غيره، إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها».
وقوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} يعني: حتى إذا جاء مترفيهم- وهم السعداء المنعمون في الدنيا- عذابُ الله وبأسه ونقمته بهم {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} أي: يصرخون ويستغيثون، كما قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا. إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا. وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 11- 13]، وقال تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3].
وقوله: {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} أي: لا نجيركم مما حل بكم، سواء جأرتم أو سكتُّم، لا محيد ولا مناص ولا وَزَرَ لزم الأمر ووجب العذاب.
ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} أي: إذا دعيتم أبيتم، وإن طُلبتم امتنعتم؛ {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12].
وقوله: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ}: في تفسيره قولان، أحدهما: أن مستكبرين حال منهم حين نكوصهم عن الحق وإبائهم إياه، استكبارًا عليه واحتقارًا له ولأهله، فعلى هذا الضمير في {بِهِ} فيه ثلاثة أقوال:
أحدهما: أنه الحرم بمكة، ذموا لأنهم كانوا يسمرون بالهُجْر من الكلام.
والثاني: أنه ضمير القرآن، كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهجر من الكلام: «إنه سحر، إنه شعر، إنه كهانة» إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة.
والثالث: أنه محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا يذكرونه في سمرهم بالأقوال الفاسدة، ويضربون له الأمثال الباطلة، من أنه شاعر، أو كاهن، أو ساحر، أو كذاب، أو مجنون. وكل ذلك باطل، بل هو عبد الله ورسوله، الذي أظهره الله عليهم، وأخرجهم من الحرم صاغرين أذلاء.
وقيل: المراد بقوله: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أي: بالبيت، يفتخرون به ويعتقدون أنهم أولياؤه، وليسوا بهم، كما قال النسائي في التفسير من سننه:
أخبرنا أحمد بن سليمان، أخبرنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن عبد الأعلى، أنه سمع سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس أنه قال: إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ}، فقال: مستكبرين بالبيت، يقولون: نحن أهله، {سَامِرًا} قال: يتكبرون ويسمرون فيه، ولا يعمرونه، ويهجرونه.
وقد أطنب ابن أبي حاتم هاهنا بما ذا حاصله.


{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)}.
يقول تعالى منكرًا على المشركين في عدم تفهمهم للقرآن العظيم، وتدبرهم له وإعراضهم عنه، مع أنهم قد خصوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول أكمل منه ولا أشرف، لا سيما وآباؤهم الذين ماتوا في الجاهلية، حيث لم يبلغهم كتاب ولا أتاهم نذير، فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله إليهم بقبولها، والقيام بشكرها وتفهمها، والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار، كما فعله النجباء منهم ممن أسلم واتبع الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، ورضي عنهم.
وقال قتادة: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} إذًا والله يجدون في القرآن زاجرًا عن معصية الله لو تدبره القوم وعقلوه، ولكنهم أخذوا بما تشابه، فهلكوا عند ذلك.
ثم قال منكرا على الكافرين من قريش: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} أي: أَفَهُمْ لا يعرفون محمدًا وصدقه وأمانته وصيانته التي نشأ بها فيهم، أفيقدرون على إنكار ذلك والمباهتة فيه؟ ولهذا قال جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، للنجاشي ملك الحبشة: أيها الملك، إن الله بعث إلينا رسولا نعرف نسبه وصدقه وأمانته.
وهكذا قال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم وكذلك قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل، حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته، وكانوا بعد كفارًا لم يسلموا، ومع هذا ما أمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك.
وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} يحكي قول المشركين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تقوَّل القرآن، أي: افتراه من عنده، أو أن به جنونا لا يدري ما يقول. وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به، وهم يعلمون بطلان ما يقولونه في القرآن، فإنه قد أتاهم من كلام الله ما لا يُطاق ولا يُدافع، وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله، فما استطاعوا ولا يستطيعون أبد الآبدين؛ ولهذا قال: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} يحتمل أن تكون هذه جملة حالية، أي: في حال كراهة أكثرهم للحق، ويحتمل أن تكون خبرية مستأنفة، والله أعلم.
وقال قتادة: ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلا فقال له: «أسلم» فقال الرجل: إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «وإن كنت كارها».
وذكر لنا أنه لقي رجلا فقال له: «أسلم» فَتَصَعَّده ذلك وكبر عليه، فقال له نبي الله: «أرأيت لو كنتَ في طريق وَعْر وَعْث، فلقيت رجلا تعرف وجهه، وتعرف نسبه، فدعاك إلى طريق واسع سهل، أكنت متبعه؟» قال: نعم. فقال: «فوالذي نفس محمد بيده، إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه، وإني لأدعوك إلى أسهل من ذلك لو دعيت إليه».
وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلا فقال له: «أسلم» فَتَصَعَّدَه ذلك، فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت فتييك، أحدهما إذا حدثك صدقك، وإذا ائتمنته أدى إليك أهو أحب إليك، أم فتاك الذي إذا حدثك كذبك وإذا ائتمنته خانك؟». قال: بل فتاي الذي إذا حدثني صدقني، وإذا ائتمنته أدى إلي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كذاكم أنتم عند ربكم».
وقوله: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} قال مجاهد، وأبو صالح والسدي: الحق هو الله عز وجل، والمراد: لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى، وشرع الأمور على وفق ذلك {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} أي: لفساد أهوائهم واختلافها، كما أخبر عنهم في قولهم: {لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ثم قال: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف: 31، 32] وقال تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100] وقال: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 53]، ففي هذا كله تبيين عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله، وشرعه وقدره، وتدبيره لخلقه تعالى وتقدس، فلا إله غيره، ولا رب سواه.
ثم قال: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} يعني: القرآن، {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}.
وقوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا}: قال الحسن: أجرا.
وقال قتادة: جعلا {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلا ولا شيئا على دعوتك إياهم إلى الهدى، بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه، كما قال: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ} [سبأ: 47]، وقال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، وقال: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]، وقال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 20، 21].
وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} قال الإمام أحمد:
حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جُدْعَان، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه- فيما يرى النائم- ملكان، فقعد أحدهما عند رجليه، والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مَثَل هذا ومثل أمته. فقال: إن مَثَلَه ومثل أمته، كمثل قوم سُفْر انتهوا إلى رأس مَفَازة، فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به، فبينا هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة، فقال: أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة، وحياضا رواء تتبعوني؟ فقالوا: نعم. قال: فانطلق، فأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء، فأكلوا وشربوا وسمنوا فقال لهم: ألم ألفكم على تلك الحال، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني؟ قالوا: بلى، قال: فإن بين أيديكم رياضا أعشب من هذه، وحياضا هي أروى من هذه، فاتبعوني. قال: فقالت طائفة: صدق والله، لنتبعه. وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا زهير، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري، حدثنا حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني ممسك بحجزكم: هَلُمَّ عن النار، هلم عن النار، وتغلبوني وتقاحمون فيها تَقَاحُم الفراش والجنادب، فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فَرَطكم على الحوض، فتردون علي معا وأشتاتا، أعرفكم بسيماكم وأسمائكم، كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله، فيُذْهَب بكم ذات اليمين وذات الشمال، فأناشد فيكم رب العالمين: أي رب، قومي، أي رب أمتي.
فيقال: يا محمد، إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم، فلأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء، ينادي: يا محمد، يا محمد. فأقول: لا أملك لك شيئا. قد بلغت، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيرا له رُغَاء، ينادي: يا محمد، يا محمد. فأقول: لا أملك شيئا، قد بلغت، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا لها حمحمة، فينادي: يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغت، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم، ينادي: يا محمد، يا محمد: فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغت».
وقال علي بن المديني: هذا حديث حسن الإسناد، إلا أن حفص بن حميد مجهول، لا أعلم روى عنه غير يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي.
قلت: بل قد روى عنه أيضا أشعث بن إسحاق، وقال فيه يحيى بن معين: صالح. ووثقه النسائي وابن حبان.
وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} أي: لعادلون جائرون منحرفون. تقول العرب: نكب فلان عن الطريق: إذا زاغ عنها.
وقوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}: يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم بأنه لو أراح عللهم وأفهمهم القرآن، لما انقادوا له ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم، كما قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]، وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 27- 29]، فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون، لو كان كيف يكون.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: كل ما فيه لو فهو مما لا يكون أبدا.


{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (83)}.
يقول تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} أي: ابتليناهم بالمصائب والشدائد، {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أي: فما ردهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة، بل استمروا على ضلالهم وغيهم. {فَمَا اسْتَكَانُوا} أي: ما خشعوا، {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أي: ما دعوا، كما قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن حمزة المروزي، حدثنا علي ابن الحسين، حدثنا أبي، عن يزيد- يعني: النحوي- عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه قال: جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أنشدك الله والرحم، فقد أكلنا العلهز- يعني: الوبر والدم- فأنزل الله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}
وهكذا رواه النسائي عن محمد بن عقيل، عن علي بن الحسين، عن أبيه، به. وأصل هذا الحديث في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش حين استعصوا فقال: «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا سلمة بن شَبِيب، حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كَيْسان، عن وهب بن عمر بن كيسان قال: حُبِس وهب بن مُنَبِّه، فقال له رجل من الأبناء: ألا أنشدك بيتا من شعر يا أبا عبد الله؟ فقال وهب: نحن في طرف من عذاب الله، والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} قال: وصام وهب ثلاثا متواصلة، فقيل له: ما هذا الصوم يا أبا عبد الله؟ قال: أَحَدَث لنا فأحدثنا. يعني: أحدث لنا الحبس، فأحدثنا زيادة عبادة.
وقوله: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي: حتى إذا جاءهم أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة وأخذهم من عقاب الله ما لم يكونوا يحتسبون، فعند ذلك أبْلَسُوا من كل خير، وأيسوا من كل راحة، وانقطعت آمالهم ورجاؤهم.
ثم ذكر تعالى نعمته على عباده في أن جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وهي العقول والفهوم، التي يدركون بها الأشياء، ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى، وأنه الفاعل المختار لما يشاء.
وقوله: {قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} أي: وما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم، كقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].
ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة وسلطانه القاهر، في بَرْئة الخليقة وذرئه لهم في سائر أقطار الأرض، على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم، ثم يوم القيامة يجمع الأولين منهم والآخرين لميقات يوم معلوم، فلا يترك منهم صغيرا ولا كبيرا، ولا ذكرا ولا أنثى، ولا جليلا ولا حقيرا، إلا أعاده كما بدأه؛ ولهذا قال: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي: يحيي الرمم ويميت الأمم، {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: وعن أمره تسخير الليل والنهار، كل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا، يتعاقبان لا يفتران، ولا يفترقان بزمان غيرهما، كقوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].
وقوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي: أفليس لكم عقول تدلكم على العزيز العليم، الذي قد قهر كل شيء، وعز كل شيء، وخضع له كل شيء.
ثم قال مخبرا عن منكري البعث، الذين أشبهوا من قبلهم من المكذبين: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ. قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} يعني يستبعدون وقوع ذلك بعد صيرورتهم إلى البلى، {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} يعنون: أن الإعادة محال، إنما يخبر بها من تلقاها عن كتب الأولين واختلاقهم. وهذا الإنكار والتكذيب منهم كقوله تعالى إخبارا عنهم: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً. قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ. فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ. فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 11- 14]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 77- 79].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8